محمود البياتي في رقص على الماء ـ احلام وعرة

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
14/06/2008 06:00 AM
GMT



كثير من اللاجئين والمهاجرين يعملون كأدباء في السويد، بينهم عراقيون يتناولون، علي الأرجح، احداثا تدور في الوطن الأصلي، اذ ليس من الدارج وصف حياة المنفي السويدي، لكن هذا ما فعله محمود البياتي في روايته الأخيرة رقص علي الماء ـ احلام وعرة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الشخوص اتوا من بلدان شتي، ابرزهم شاعر من العراق يعيش في حي همركولان حيث يعيش المؤلف ايضاً. هذا الكتاب هو الأول باللغة العربية يحكي قصصا عن سكان هذا الحي الشهير.
جاء محمود البياتي الي السويد عام 1991، وهو يقيم في مدينة غوثنبرغ. قبل ذلك عاش نحو عشرين عاما في براغ. وقد اختار ان يعرض، بعيون شاعر من العراق، ما يجري في هذا الحي (همركولان) المتنوع اثنياً ودينياً. يتم السرد بجمل قصيرة وبأسلوب حي يدنو من السينما. نحن نرصد بشغف وقائع حياة الناس اليومية، بمن فيهم الشاعر (لم يذكر اسمه في الرواية) الذي يتغير في مجري تلك الوقائع. فهو يعثر في مقهي علي محفظة نقود عليها اسم الفونس. يبدأ البحث عن صاحب هذا الاسم ومغزي وجوده مطبوعاً علي المحفظة. بات يتعمد وضعها علي طاولة المقهي املاً في ان يتعرف عليها المعني. وفي سياق البحث عن صاحب المحفظة كأن الشاعر يبحث عن نفسه هو وعن هويته الجديدة في بيئته الجديدة: السويد.
هذه الرواية القصيرة نجحت في ان تقول، علي نحو موجز، الكثير حول المنفيين والمهاجرين، لا سيما في همركولان؛ نجحت في ان تفعل ذلك بأسلوب ممتع وغير مألوف يستعرض حياة اناس متنوعي الأصول والاعراق والديانات، انتهي بهم المطاف في السويد، آملين الفوز بحياة اكثر امناً وكرامة. تبدأ الرواية بحدث عادي (شاعر يجد محفظة نقود) لكن ذلك يغير نمط حياته، يضعه علي محك اخلاقي: هل يسلم المحفظة للبوليس ام يحتفظ بها؟! وهو إذ يخضع للاغواء تتوالد التساؤلات بقلق: ماذا لو ان كاميرة ترصده وهو يستولي علي محفظة شخص آخر؟ هل صاحبها سويدي ام اجنبي؟ من هو الفونس؟... ويأخذ الشاعر معه القارئ للبحث دون جدوي. يمضي مرارا الي المقهي، يضع المحفظة في موقع بارز امامه علي المائدة ـ لعل صاحبها يأتي. في غضون البحث عن الفونس في بطون الكتب ينفتح عالم الشاعر للقارئ محاطاً بأشخاص انغمروا معه في بحث يرمز الي البحث عن التشارك الوجداني او عن هوية. هذا هو احد محاور الرواية المركزية.
ومن هنا بالضبط يبدأ الشاعر البحث في ديانات وثقافات شتي محاولا ربطها الي جوانب اخري من وجوده كمنفي يفتش عن مصير لائق.
يعيش شخوص الرواية الرئيسيون كلهم ضمن حي همركولان، ما عدا الشيخ سليمان، فهو يعيش في كهف علي جبل في لبنان. غادة، رسامة فلسطينية نجت من مجزرة صبرا وشاتيلا، ترتبط بعلاقة حب مع الشاعر. قبل ذلك كانت مقترنة برجل كوبي هجرته بعدما اكتشفت شذوذه جنسياً. سارة، يهودية من اصل بولندي، حبيبها خوليو ترك مع الوالدين تشيلي بعد انقلاب بينوشيت. هو عازف غيتار وهي تهوي الشعر وتميل للحياة البوهيمية وتفرط في معاقرة الخمرة. آواز، فتاة من كردستان العراق، وعبدو، شاب عراقي يدرس في جامعة غوثنبرغ. هناك شخوص آخرون ينتسبون الي حي همركولان الذي يكاد يخلو من السويديين، معظمهم عرب، اكراد، صوماليون، لاتين امريكيون، يوغسلاف، وغجر. بين هؤلاء لصوص، سكيرون، واصوليون. لكن يوجد بينهم مثقفون كذلك وفنانون وتقدميون يسعون للاتصال بأنفسهم وبمحيطهم وجيرانهم واصدقائهم وبالوطن الجديد.
يخلق الكاتب عبر بطل الرواية، الذي يعاني كثيرا من الحصار الامريكي علي بلده العراق، عالما شبيها بعالم دانتي حيث يجمع في لقاء حافل شخصيات تبدو متصارعة: ماركس، يسوع، موسي، الحلاج وغيرهم، لكن هؤلاء جميعا يريدون تحقيق العدل والمساواة بين البشر بطرق مختلفة . وفقاً للبياتي السويد مكان صالح لعيش المهاجرين لكنهم لن يكونوا بالضرورة اسعد. فهم لا يستطيعون مغادرة الغيتوات ولا يريدون. الاختلاط محدود جدا بالسويديين. وهم يتعرضون احيانا الي تحرشات العنصريين ومضايقاتهم. في هذه الرواية يناقش الكاتب المهاجر سياسة الهجرة وعيوبها، كما يصف اجواء الجمعيات التي تنظم مهرجانات همركولان ويلتقي فيها الأعضاء ليمارسوا النشاط ويتسلون بعضهم مع بعض. البياتي يكتب عن القدرة علي التكيف مع الحياة الجديدة وما يعترضها من تعقيدات كثيرة. هو يكتب ايضا عن عراقيين فارين بزوارق من شواطئ تركيا الي قبرص واليونان، فقد كثير منهم الحياة قبل ان يبلغ الباقون السويد، هدف الهجرة النهائي..
يجيد البياتي وضع اشخاص متباينين معاً ليتصرفوا علي هواهم. كذلك يبني مواقف ومشاهد تتداخل وتترابط في اطار فني مشوق. وهو ينبذ النمط التقليدي في الكتابة. بل يلجأ الي تكنيك فعال ومتنوع وسينمائي السمات. ذلك ما اغني الرواية بصور احداث تتدفق بحيوية وغزارة. الرواية جديرة بالقراءة ليس فقط من قبل العرب وانما الاوروبيين ايضا، ذلك لأن البياتي يشارك عبرها ـ كأديب ـ في الجدل المحتدم حول موضوع اندماج المهاجرين في مجتمعات اوروبا والسويد تحديدا، يفعل ذلك علي نحو مقنع وجذاب. هو لديه الكثير مما يقول، وقادر علي قول ما لديه بمهارة عبر شخوص يحاولون بطرق عديدة بلوغ مستوي معقول من الحياة لهم ولعوائلهم في السويد.
من خلال متابعة الشاعر، بطل الرواية، يلامس القارئ عواطف جد قوية، حساسة، وآنية، لسكان همركولان ذوي الثقافات والديانات المتنوعة. الشاعر العراقي يفهم حياته الجديدة فيما هو يحاول فهم حياة الذين يقابلهم يوميا. ويشير البياتي الي ان الاجانب (المهاجرين واللاجئين) ملامون ايضا لعدم تحررهم من النظرة المسبقة ومن معوقات ارث التقاليد. العنصر الثمين في المناقشات الدائرة في الكتاب، بين المواطن الأصلي والمهاجر، يكمن في سؤال: كيف يمكن لنا التعايش معا؟

* فاضل الجاف ، مدير مسرح مختص في اسلوب التمثيل المسرحي الفيزيائي ومدرس لغة الجسد.
* خالد احمد ، اعد المقال باللغة العربية استنادا الى مقال باللغة السويدية للفنان فاضل الجاف
kzakiahmad@yahoo.com